Wednesday, February 6, 2013

عن ضرورة الزحف الثوري لهدم جدار القصر العيني

قضيت ساعتين الأسبوع الماضي تائها في شوارع وحواري وسط المدينة.
الجداران  الخرسانية في "الشيخ ريحان"  و"يوسف الجندي" و"الفلكي" تخنق المرور، ويتحول ميدان التحرير والكورنيش إلى ساحة انتظار ضخمة. ألف وأدور حول نفسي، محاولا الوصول، إلى شارع شفيق الديب، القريب من فيلا روزاليوسف، كي أصل إلى المركز الثقافي الفرنسي لأنهي أمرا ما، وأعود بعدها إلى مقر عملي بالدقي.
الجدران اللعينة في القصر العيني تزيد مساري تعقيدا، وتضاعف وقت الوصول من بضع دقائق لساعة على الأقل.
أتذكر 18 يوما كانت "وسط البلد" فيها بيتي الثاني.. أسير في شوارعها بثقة، وأتحرك فيها بلا عائق. انحاز قلب المدينة للثوار فدانت لهم البلد. الجغرافيا الفريدة للقاهرة بطل حقيقي من أبطال الثورة، قلما حاز نصيبه من المديح. سمحت وسط البلد لبضع آلاف من سكان القاهرة أن يحكموا القبضة على قلب الدولة وشرايينها، فيحاصروا مجلس الوزراء، ويغلقوا مجلس الشعب، ويعطلوا المجمع الإداري الرئيسي، ويحولوا ماسبيرو إلى سجن يحبس داخله أبواق النظام دون أمل في الخروج منه سالمين.
كان لجمال مبارك مشروعا ضخما يروج له رفاقه من رجال الأعمال، اسمه "القاهرة 2050". بموجب المخطط الجديد للقاهرة، يعاد بناء مبنى البرلمان في التجمع الخامس جانب "مدينتي" لصاحبها هشام طلعت مصطفى، ويتم تفكيك المجمع الإداري وتوزيع مكاتبه على أنحاء البلاد، ويقام مكانه فندقا فخما. وبعد إجلاء سكان مثلث ماسبيرو، وكسح عشش رملة بولاق، يتحول الكورنيش إلى أرض ناطحات السحاب على الطراز الشرق الأسيوي الذي تبنته دبي، ويفصل بينها الحدائق والمنتزهات. أما وسط البلد من التحرير إلى طلعت حرب والمناطق المحيطة، فيُخلى من الشركات والمصالح التجارية والإدارية، ويصبح ممشى سياحيا على طراز الشانزليزيه الفرنسي. بدأ مبارك الابن تنفيذ مشروعه بالفعل، فمنعت محافظة القاهرة تراخيص الترميم في مثلث ماسبيرو كي تجد مبررا لإزالتها، وباعت المباني الأثرية في وسط البلد لشركة النيل للاستثمار العقاري، وأطلقت يد ساويرس ليذيق أهالي رملة بولاق ألوانا من العذاب، محاولا إجلائهم إلى أراض صحراوية نائية في 6 أكتوبر، واستعانت بالـ"ديار" القطرية، وتفاوضت مع عدة شركات خليجية لبناء الفنادق والمولات.
قامت الثورة قبل أن ينجح جمال في تحويل القاهرة إلى عنوان حداثة مصر في عهد آل مبارك الثاني، وربما لو كان نجح في تنفيذ مشروعه، لما كان للتظاهر في التحرير ربع أهميته. أهالي مثلث ماسبيروكانوا لأيام سادة القاهرة، يتحركون بحرية ويسر، في حين صار المكان محرما على "بهوات" مبنى التليفزيون ومذيعيه، أما حرافيش رملة بولاق فأحرقوا "أركاديا"، وحرموا راقصي "تامراي" وسكارى "أوبار" من رفاهية تجاهل فقرهم البائس.
لم يكن الحال ليستمر طويلا.. فالنظام بدأ يسترد عافيته تحت حكم العسكر. إدارة فندق "فيرمونت" استعانت لفترة قليلة بـ"حمادة البني"، أحد بلطجية رملة بولاق لحمايتها من الشغب، وما أن قويت شوكة الشرطة ثانية، حتى أعدمه حرس الفندق في الشارع برصاصة في الظهر كأي كلب حراسة عجوز. شرعت إدارة "مدينة النيل"، المعروفة باسم برج ساويرس، الشهر الماضي في بناء بوابة ضخمة، بعد أن ظل البرج 10 سنوات مفتوحا على الكورنيش. ماسبيرو أيضا أنفق ربع مليون جنيه على بناء بوابة أمنية جديدة، إضافة للإجراءات الأمنية المشددة ورشاشات الجرينوف في دوره الأول وأسلاك شائكة حول منافذه.
ما أظن أن الإخوان كانوا ليعارضوا مشروع "القاهرة 2050"، فهم، مثل مبارك، يحلمون بعاصمة على الطراز الخليجي.. مبهرة في ثرائها وبذخها، وتبعد عن معسكرات العمال وأكواخ الفقراء عشرات الكيلومترات.
 لن تسمح الظروف الاقتصادية الراهنة ببناء أبراج دبي، ولن يسمح انكسار الشرطة الذي مازالت تتعافى منه، بالصمود أمام انتفاضة جديدة لسكان ماسبيرو ورملة بولاق. لكن العسكر، ومن بعدهم الإخوان، قرروا أن قلب المدينة بشكله الحالي يهدد قدرتهم على إحكام السلطة.
إن لم تكن دبي.. فلتكن تل أبيب إذا..
لأكثر من 30 سنة، ظلت إسرائيل المعلم الأول في كيفية إدارة الدولة البوليسية، فكان لها السبق في ابتكار أساليب للتعرف على المفجرين الانتحاريين قبل الضغط على زر القنبلة، ولها باع طويل في تأمين المباني الحكومية، ومراقبة الشوارع بالكاميرات، وعزل "المشاغبين" عن المدينة بنقاط التفتيش والجداران العازلة. أتقنت إسرائيل فن الحياة في حالة حرب دائمة ضد مجهولين، فالعدو قد يكون مختبئا في أتوبيس عام، أو في مدرسة رياضة أطفال،  أو متربصا للدخول من أي ثغرة بالمدينة.
صدرت إسرائيل أساليبها حول العالم، وساعدتها شركات الأمن العابرة للقارات ذات رؤوس الأموال الضخمة لعولمة صناعة "العسكرة المدنية"، وتحويل المدن إلى ساحات حرب تحت سيطرة الجيوش.  فرأينا أمريكا تحاكي تكتيكات التأمين الإسرائيلية لخلق "المنطقة الخضراء" الآمنة بالعراق، ولندن تستخدم أساليب تجسس عسكرية متطورة، وتطلق حالة من الاستنفار الأمني المفزع في محاولة لمنع أي عملية إرهابية من  أثناء استضافتها للأوليمبياد. منحت "11 سبتمبر" الحكومات الغربية مبررا قويا ومشروعا لعسكرة مدنها على الطراز الإسرائيلي إلى درجة تهدد خصوصية مواطنيها، الذين صاروا لا يبالون بالحريات والخصوصية في مقابل الأمن من خطر الإرهاب.
ليست مصادفة إذا أن أحد أوائل الجدران الخرسانية التي بُنيت في القاهرة كانت أمام سفارة إسرائيل..

مصر ليست استثناء من الموضة العالمية الجديدة بعسكرة المدن، وخير دليل على ذلك هو  أنباء استيراد الشرطة لسيارات حديثة أكثر قدرة على القمع، وشرائهم لملابس جديدة لا تتأثر بالخرطوش والمولوتوف، وطائرات هليكوبتر لم نر لها استخداما سوى في استطلاع أحوال "مشاغبي" قصر الاتحادية والسفارة الأمريكية، هذا غير استيراد جهاز أمن الدولة السابق لأجهزة تجسس واستطلاع على حسابات البريد الإلكتروني من ألمانيا، وتعاملها الدائم مع إحدى شركات صناعة قنابل الغاز في ولاية فيلاديلفيا الأمريكية، وغيرها.
 الحكومة المصرية لا تخاف من الإرهاب، ولكنها تعيش تحت خطر من تجدد الانتفاضات الشعبية والثورة.. حان الوقت إذا أن يتعلم المصريون الحياة في حالة استنفار أمني دائم. فليذهب قانون الطوارئ إلى الجحيم، فهو لم يحم مبارك، ولن يقبل المصريون استمراره 30 سنة أخرى. الضمان الحقيقي هو تعويد المصريين على واقع مغاير، واقع تصبح فيه المدينة تحت سيطرة السلطة دون نقاش، وتصير فيه المباني الحكومية "مناطق خضراء" لا يجرؤ أحدا من الاقتراب منها، وبتني 11 جدار خرساني في وسط البلد لتجعل التجول فيها مستحيلا، وينصاع السكان مثل فئران تجارب وُضعوا في متاهة صنعها عالم سادي، يصلون إلى طريق مسدود، فيدورون ويبحثون عن طريق آخر، بدلا من رفض هذا العبث وكسر الجدران للوصول إلى الهدف، مثلما أتجول أنا حول نفسي، بحثا عن الطريق إلى المركز الثقافي الفرنسي.  
أسمع لأحاديث جانبية في الشارع وكلام المتنطعين على شبكات التواصل الاجتماعي وهم يتلمسون الأعذار للشرطة في سحق المتظاهرين أمام مجلس الوزراء أو قصر الرئاسة، ضاربين الأمثال بكيف من الممكن أن تسحق شرطة بريطانيا وأمريكا المتظاهرين أمام مبانيها الحساسة، غير مدركين التاريخ الأسود وراء هذه السياسات الأمنية الوحشية.
عندها، أشعر أن الثورة في سباق مع الوقت كي تزيل تلك الجدران القبيحة، وتدمر قبضة الشرطة الغاشمة مرة أخرى وأخيرة، لعل المصريين يتذكروا حريتهم، ولا يتعودوا الرضوخ لمسارات الأسلاك الشائكة والجدران العازلة، والسير بشكل غير مثير للانتباه وسط والجنود المحتمين بالدروع الواقية من الرصاص.
أتذكر أني في سباق مع الوقت كي أنهي مشواري سريعا وأعود إلى عملي في موعد مناسب.. فأنفض عن رأسي هذا كله.




1 comment:

  1. انا كان نفسي فعلا يتعمل الكلام دة في القاهرة قبل ماتقوم الثورة

    ReplyDelete