Friday, August 12, 2011

أسرار الصوفية السبعة

تحقيق صحفي نشرته منذ سنة في جريدة الشروق، أعيد نشره هنا بمناسبة تظاهرة
الجماعات الصوفية


هم أكثر من 8 ملايين مصري في أقل تقدير، أو ربما 15 مليونا كما تذهب بعض الإحصائيات.

تربطهم جميعا كلمة "الصوفية"، وتميز بينهم باسماء مختلفة لكل طريقة، لها علمها وألوانها وطقوسها العلنية، وايضا بالكثير من الأسرار.

أسرار الصوفية تبدأ من "العهد" الذي يقطعه المرد على نفسه أمام معلمه وشيخه، وتستمر إلى بعض الشعائر والأوراد الخفية، التي تحرم الطرق الصوفية الإفصاح عنها، كما تمنع تدوينها بالكتابة، حتى لا تتسرب خارج الطريقة.

لكن علاقة الطرق الصوفية بالمال والسلطة تبقى سر الأسرار.

"الشيوخ أغنياء لأنهم يستعينون بالجن في جلب الأموال"، هكذا يفسر المريدون الطيبون الثراء غير العادي لبعض الرؤساء.

"أمن الدولة يتابعنا من أجل حماية الطرق الصوفية من المخربين واللصوص"، هكذا يرى الصوفيون أسباب تدخل الأمن في كل تفاصيل حياتهم، من إصدار بطاقة العضوية بالطريقة، إلى طلب معاني بعض الأوراد الغامضة، وربما يصل الأمر بالشرطة إلى طلب طرد بعض المريدين من الطريقة، دون إبداء الأسباب.

في هذا التحقيق نقترب من العالم الصوفي ببنائه الداخلى الفريد، وعلاقاته مع المجتمع والسلطة، من خلال رحلة الشيخ أحمد مسلم، طالب الأزهر وقت دخوله إحدى الطرق، ووكيل العلوم الشرعية بالأزهر حاليا.

أسرار الصوفية السبعة

 
عصر شتاء بارد عام 1981، كان أحمد مسلم الطالب الجامعي يشعر بالجوع والإرهاق الشديد، وليس في جيبه نقود تكفي مواصلاته من مكان دراسته في طنطا إلي بيته في الإسكندرية.
يجلس الرجل الخمسيني الآن علي مقعده المفضل بالنادي الأوليمبي بالإسكندرية. يرتشف فنجان القهوة، ويسترجع تفاصيل تلك الليلة كأنها حدثت الأمس. "ما لقيتش قدامي غير إني أروح لمقام القطب والغوث السيد أحمد البدوي". هناك شرع في الصلاة والتوسل والدعاء، عله يجد لأزمته مخرجا.
العاشرة مساء، توجه أحمد إلي موقف الميكروباص، يراقب السيارات دون أن يجرؤ علي الركوب. ساعة ونصف مرت، وأحمد يشعر باليأس الشديد، إلا أنه فجأة وجد ورقة يطيرها الهواء لتستقر علي صدره. "فكرت أرمي الورقة، بصيت عليها لقيتها 100 جنيه. 100 لانج محدش مسكها ".
يقول أحمد أنه شعر بالذهول الممزوج بالفرح، ليقرر أن يرجع إلي مقام البدوي يصلي شكرا، "وهناك قابلت أحد المجاذيب اللي بص لي وسألني: الأمانة وصلت؟"، فرد عليه بالإيجاب، "لكن كنت بقول في نفسي يمكن الرجل بيقول أي كلام"، عندها فاجأه المجذوب بأنه يعلم جيدا ما يدور في عقله، ليعاوده السؤال " الشك لسة جواك برده؟ لما ربنا يكرمك ابقي هاتهالي علشان يخدها غيرك".
تتسع ابتسامة أحمد ويزداد انفعاله ويردد "سبحان الله" أكثر من مرة، قبل أن يستكمل الجزء الأكثر إثارة في قصته، "ما حكيتش اللي حصل لأي حد خالص وفضلت محتفظ بالقصة سر، لكن بعد يومين لقيت شيخي في الطريقة بيسألني: فاضل كام من المية جنيه النفحة اللي وصلت لك؟".
يقول أحمد أن الشيخ طلب منه أن يعيد 100 جنيه للمجذوب، فهي نفحة عليه أن يردها حتي يستفيد بها غيره. كيفية معرفة الجد بالحادثة، "فدي حاجة كانت حتخلي فيوزات مخي تضرب، إنها بصيرة الشيخ ولا تفسير غير ذلك".
أحمد مسلم، وكيل العلوم الشرعية بالأزهر، وخليفة خلفاء الطريقة الصوفية الرفاعية في الإسكندرية والكفر الدوار سابقا يسترجع ذكرياته منذ دخوله الطريقة وحتي قراره بالانفصال عنها بعد عشرين عاما كاملة.

"من زار الأعتاب عمره ما خاب"، حكمة عن فضل زيارة آل البيت سمعها و حفظها أحمد مسلم، وكيل العلوم الشرعية بالأزهر، وخليفة خلفاء الطريقة الصوفية الرفاعية السابق بالأسكندرية وكفر الدوار.

"جدي هو اللي قالي الحكمة دي وحببني في آل البيت والطرق"، فالجد هو الشيخ أبو مسلم، أحد مشايخ الطريقة الرفاعية، ومازال مريده يزرون مقامه في الزقازيق.

الحكمة التي سمعها أحمد من جده، الشيخ أبو مسلم، كانت بداية طريقة لدخوله الطريقة الرفاعية والارتقاء في مراتبها. "الطرق الصوفية اختلط فيها الحابل بالنابل، والصالح والطالح"، ومثلما كانت زيارة أضرحة آل البيت وأولياء الله الصالحين ومشايخ الطرق بداية لدخول أحمد الطريقة، فإن الاختلاف حول آداب الزيارة ومغزاها كان أحد الأسباب التي دفعته بعد أكثر من 20 عاما لأن يقلل من علاقته الرسمية بالطريقة، مفضلا الانعزال عن المدراء الرسمي والتعبد مع نفر قليل من أتباعه.


1
 صلوات واستغفارات
أمره الخليفة بالاستغفار والصلاة وأعطاه صورة شيخ الطريقة حتي يستأنس بها أثناء التعبد



الشيخ أحمد مسلم يتذكر جيدا إحساس الانشغال الدائم بالاستغفار في بداية علاقته بالطريقة. "حسيت إني بقيت كويس. الاستغفار نورني وأزال عني حجب الظلمة".
ودائما ما يكون "الاستغفار ضرورة لكي تهئ نفسك لدخول الطريقة"، كما يحكي عبد الله، وهو الاسم المستعار الذي اختاره أحد المريدين المنشغلين بالتسبيح في مسجد الحسين بالقاهرة. "استغفر الله استغفر الله"، يرددها منذ صلاة المغرب وحتي قرب صلاة العشاء.
السوالف الطويلة المضبوطة و"السكسوكة" لا تشي بأن الشاب هو أحد أتباع الطرق الصوفية منذ سنة ونصف سنة.
يفضل عبد الله ألا يكشف اسم الطريقة لأنه لم يأخذ الإذن بالحديث من شيخه.
يذكر كيف دخل "تكية" الطريقة القريبة من الحسين، فأخذه أحد خلفاء الشيخ في غرفة منعزلة وبدأ يحدثه ويوعيه. أعطاه الخليفة 5 ورقات مطبوعة من القطع الصغير، عليها عدد معين من الاستغفارات والصلوات، وصورة شيخ الطريقة حتي يستأنس بها أثناء التعبد.
تحوي الورقات الخمس تعليمات بقراءة الفاتحة وسورة الإخلاص عددا معينا من المرات يوميا، وإهدائها لمشايخ الطريقة بداية من شيخها الحالي ووصولا إلي النبي محمد (ص).
يعترف عبد الله أنه لا يعرف شيئا عن تاريخ أغلب المشايخ الذين يهدي إليهم الفاتحة يوميا منذ دخوله الطريقة حتى الآن، "لكن الخليفة فهمني إنهم ليهم الفضل علينا في وصول الصلوات دي"، فمصدر بعضها، حسب اعتقادهم، هو النبي، والبعض الآخر "من الوحي الذي يأتي لشيوخ الطريقة علي مر العصور".
يقول عبد الله أن الخليفة قد أمره بالاستغفار ما يزيد عن 70 ألف مرة، وعلمه كيفية استعمال السبحة الصوفية، التي تحوي عدادا للمئات، وآخر للآلاف، ثم ثالثا للعشرة آلاف. "الشيخ قالي إنه عايز يعرف أنا وصلت فين في الاستغفارات بمجرد إنه يبص في السبحة".
يصاحب الاستغفارات صلوات علي النبي متوارثة عن المشايخ والأقطاب لكل طريقة. تتفق أغلب الصلوات في استخدامها لألفاظ ذات معان غامضة علي غير أصحاب الطريقة، والطول الشديد. وإن كان يقلل من صعوبة حفظها استخدام السجع والوزن.
أحد أشهر صلوات الطريقة الرفاعية تقول " اللهم صل وسلم وبارك علـى نورك الأسبق وصراطك المحقق .من أبرزته رحمةً شاملة ً لوجودك . وأكرمته بشهودك . واصطفيته لنبوتك ورسالتك ... نقطة مركز باء الدائرة الأولية . وسر أسرار الألف القطبية . الذي فتقت بـه رتق الوجود . وخصصته بأشرف المقامات لمواهب الإمتنان والمقام المحمود...".


2
المكاشفات
الصفاء، ورؤية النبي في المنام، والمكاشفات وهي الرؤيا من العالم الآخر
يردد المريد الصلوات والاستغفارات بأعداد محددة في أوقات معينة، كأن يطلب منه مثلا أن يقرأ الفاتحة 33 مرة وسورة الإخلاص 99 مرة بعد كل صلاة صبح أو عصر. ولتفسير هذه الأعداد والأوقات أصول من الأحاديث النبوية، وبعضها تختص الطريقة بسر تكراره ومواعيده.
ويطلب الشيخ من المريد أن يكرر اسم بعينه من أسماء الله الحسني بأرقام محددة طبقا للقيمة الرقمية من حروفه. "يعني كان الشيخ يقولي مثلا اقرأ اسم اللطيف مضروب في اتنين". الألف تساوي واحد، واللام تساوي 30، وهكذا.
بعد حساب قيمة الاسم رقميا يضرب في اتنين أو في نفسه حسب تعليمات الشيخ، ليدرك المريد العدد المطلوب في تكرار الاسم.
"في هذه المرحلة يأتي الصفاء، ورؤية النبي في المنام، والمكاشفات"، وهي "الرؤيا من العالم الآخر"، طبقا لتعريف الرجل.
يرفض الشيخ أحمد أن يفصح عن مضمون هذه المكاشفات وتفاصيلها، فمن لم يخوض بنفسه هذه التجربة، ولا يؤمن إلا بالماديات فقط قد يقول عن الصوفة "أن خيالهم واسع أو أفاقين أو عقولهم فيها حاجة غلط"، في رأي الشيخ.




3
 عهد الطاعة للشيخ
يضع الشيخ يده علي يد المريد في حضور شهود من الطريقة ويتلو 7 صلوات علي النبي

"شفت لك رؤيا حلوة ولازم أديك العهد". كانت الجملة التي دعي بها الجد حفيده الشيخ أحمد للانضمام للطريقة، فالجد هو الشيخ أبو مسلم، من كبار رجال الطريقة الرفاعية، ومازال مريدوه يزورون مقامه في الزقازيق.
العهد هو "ربط القلب بالقلب"، فما يفعله المريد في الخفاء يظهره الله للشيخ، كما يقول الشيخ أحمد مسلم، "وده مش معناه إن الشيخ يعلم الغيب"، في رأي أحمد، لكنها بصيرة يعطيها الله علي لأوليائه الصالحين مصداقا للحديث النبوي "اتقوا فراسة المؤمن فإنه يري بنور الله"، علي حد قوله.
"بعد فترة قال لي جدي أنه قد رآني بمرآه قلبي، وأنه يريد أن يعطيني العهد". يضع الشيخ يده علي يد المريد الحفيد في حضور شهود من الطريقة. يقرأ الشيخ الفاتحة ثم يبدأ في تلاوة 7 صلوات علي النبي، وهو تقليد يختلف من طريقة لأخري، ثم صلوات متوارثة في تعظيم الأقطاب الصوفية الأربعة الكبار وهم السيد عبد القادر الجيلاني، والسيد إبراهيم الدسوقي ، والسيد أحمد البدوي، والسيد أحمد الرفاعي الكبير، ومن تلاميذهم ومريديهم تتفرع آلاف الطرق الصوفية.
يستكمل الشيخ العهد بتلاوة آيات مختارة من القرآن يبدأها من سورة الفتح. "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما"، وهي الآية التي نزلت أصلا في صلح الحديبية بالهدنة بين النبي (ص) وقبيلة قريش. يستكمل الشيخ تلاوة الآيات لينهيه بالقسم.
يختلف العهد من طريقة لأخري، فالقسم في الطريقة الحامدية الشاذلية يتضمن "تعهدا" بطاعة الشيخ. "إني عاهدت الله وأعاهد الله وأعهد إلى الله وأشهد على نفسي، بأنني قد التزمت السمع والطاعة لشيخي هذا فلا أخلفه بقلبي ولا بجوارحي ولا لساني... فإذا خالفت شيخي هذا أو نكرت عليه، أو اعترضت أو غيرت أو بدلت، أكون خائناً وناكثاً وناقضاً لعهود الله ومواثيقه".
"العهد ده شرف كبير"، كما يقول مدرس في أواخر الأربعينات بأحد مدارس الهرم بالجيزة، من أتباع الطريقة الخليلية. يظهر من فتحة ياقة قميصه أنه يرتدي علي رقبته السبحة الصوفية الطويلة.
العهد هو البداية الحقيقية لدخول أي مريد للطريقة الصوفية. نص القسم يختلف من شيخ لآخر "حسب اللي بيفتح بيه ربنا علي كل شيخ"، لكنه دائما ما يحمل ذات المعني، وهو الخضوع التام للشيخ وتقبل كل أوامره دون مناقشة أو امتعاض، لأن الشيخ الذي يعطي القسم "هو شيخي في الدنيا والآخره".
لا يستنكف ابن الطريقة الخليلية الذي ينظر إليه تلامذته نظرة إكبار واحترام، أن يقول عن نفسه أنه يخاف غضب شيخه، وأن نظرة رضا من شيخه كفيلة أن تفرحه أياما وأشهر. يشرح الرجل نظريته مستندا إلي حديث سمعه من شيوخه وأخوته في الطريقة منسوب إلي النبي "أن النظر في وجه الولي من أولياء الله الصالحين، خير من عبادة ألف سنة".
يقول المتصوف بالطريقة الخليلية إن دخوله الطريقة قد غير مجري حياته، فقبل التحاقه بالطريقة لم يكن اجتماعيا، "لكن في الطريقة تعرفت في حلقات الذكر علي ناس محترمة، مهندسين ومحامين ودكاترة جامعة".
إضافة إلي ذلك، أصبح وقت المدرس رهنا بحضور حلقات الذكر، فأحد أشكال الطاعة التي يفرضها الشيخ علي المريد أنه يذهب إلي حلقات الذكر والدروس الشرعية في مواعيدها ومواقيتها دون تأخر، "لدرجة إني ظبط مواعيد الدروس الخصوصية حتي لا تتعارض مع مواعيد الحلقات".
يقول الرجل أنه يستشير شيخه في كل أمور الدنيا والآخرة، ليس بالكلمات بالضرورة، "فالشيخ حاسس بيه وعارف بأحوالي من غير ماتكلم".




4
 امتحان الصدق
الشيخ يطلب من المريد أن يتفقد أحوال زميله الجديد للتأكد من أخلاقه وأحواله

لا تنتهي الاختبارات التي يخضع لها المريد بنطقه للعهد، والتزامه بالطاعة، فقد يضعه الشيخ في مواقف صعبة، لإثبات الصدق حسن النوايا.
يتذكر الشيخ أحمد أنه تعرض من شيخه وجده لاختبارات الولاء والطاعة، رغم خضوعه للعهد بعدم مخالفة الشيخ أو انتقاده.
"مرة شفت جدي أثناء تقبيله لامرأة في الظلام، فسألته إزاي تعمل كدة؟" فكانت إجابة الشيخ أن المرأة التي يقبلها هي زوجته، "فتعلمت أنك ممكن تشوف حاجة بعينك تفكر إن حرام في الظاهر، لكنها حلال في الباطن".
فهم أحمد أن الموقف كله اختبار من الجد لولاء مريده، كي يعلمه التأني والتروي في الحكم علي الناس.
ولكل طريقة صوفية أسلوبها للتأكد من صدق نية المريد، أو الطالب، أو السالك، وكلها ألفاظ تطلق علي الراغب في الانضمام لها.
يؤكد أحمد أن الشيخ قد يطلب من المريد الذي يثق فيه أن يتفقد أحوال المريد الجديد للتأكد من جديته وأخلاقه وأحواله، كأن يطلب الشيخ مثلا أن يذهب بعض المريدين لبيت المريد الجديد أو قضاء فترة أطول في الحديث إليه.

5
 الترقي والسمو
كل مريد يواظب على دروس الشيخ أملا في الحصول على ترقية روحية
في مواجهة مسجد السيدة نفيسة، وعلى الجانب الآخر من شارع صلاح سالم، كان الشيخ شحاتة، نائب الطريقة الشهاوية، يتحدث قبل أسبوع إلي المريدين في خيمة الطريقة. كل مريد يواظب على دروس "الشيوخ" أملا في الحصول على "ترقية" روحية داخل الطريقة.
الشيخ شحاتة يؤكد للتلاميذ أن "الصوفية ليست علما تفهمه من القراءة، بل بمجاورة الرجال الصالحين". ويواصل موعظته بأن "أهل السنة ينتسبون إلي الحديث، والفقهاء إلي الفقه، أما الصوفية فعندهم العلم كله"، يؤكد الشيخ أن للصوفية أسرار تدرك بالترقي في العبادات، ولا يمكن إدراكها بالدراسة.
أنهى الشيخ كلامه بشرح المعني "الخفي" لكلمة صوفي، فالصاد صفاء والواو ولاء والفاء فـَناء، إلي أن ينتهي من موعظته ويترك كرسيه ويجلس علي الأرض مع المريدين لتبدأ الحضرة.
يتذكر الآن الشيخ أحمد مسلم أنه قضي 5 سنوات في مرتبة المريد، إلي أن قرر الشيخ ترقيته إلي مرتبة الشاويش.
بدأ الشيخ مراسم الترقية بتلاوة أوراد علي صينية خاصة أمام المريد، يرفض أحمد أن يفصح عن مضمونها لأنها أحد أسرار الطريقة. بعدها أعطى الشيخ للمريد حزاما وعقد عليه عقدة. تعاون الحضور كلهم في الإمساك بطرف العقدة وشدها حتي تنحل، "العقدة رمز كل الأمور المعقدة في حياتك، وحلها بشارة بأن تتفتح أمامك طاقات الحياة".
في هذه في هذه المرتبة، يجود الشيخ علي الشاويش بأذكار وأوراد أكثر، ويزيده في تفسير أسرار أسماء الله الحسني. "تتعلم مثلا أن أحد تصاريف اسم بعينه من أسماء الله الحسني يساعدك في أن تجد أي شيئ فقدته". هذه التصاريف، أو المشتقات اللغوية، هي تكوينات مختلفة من ذكر اسم بعينه من أسماء الله الحسني أو صيغة مشتقة منه وتكراره طبقا لحسابات معقدة في أوقات معلومة.
ما الذي تغير في حياة المريد أحمد بعد أن أصبح شاويشا؟.
"يجب عليك ارتداء العمامة السوداء رمز الطريقة الرفاعية"، فلكل طريقة بيرق "علم" يرمز إليها. الرفاعية اختارت اللون الأسود، أخذا برواية تقول أن الرسول كان يرتدي عمامة سوداء يوم فتح مكة. في حين أن الطريقة البرهانية الدسوقية الشاذلية مثلا تشتهر ببيرق ذي ثلاثة ألوان، هي الأبيض رمزا للسيد الدسوقي، والأصفر رمزا للإمام الشاذلي، والأخضر رمزا للانتساب لآل البيت.
الترقي لا يصاحبه فائدة مادية، بل هو تقرب أكثر من الله ومسئوليات أكبر تجاه الأخوة في الطريقة، خاصة في حلقات الذكر، كما يؤكد الشيخ أحمد. "من حق الشاويش قيادة الإنشاد في في حلقات الذكر مثلا".
ازداد ارتقاء أحمد في الطريقة من شاويش إلي نقيب، ثم إلي خليفة، وأخيرا خليفة خلفاء عن محافظة الإسكندرية وضواحيها وحتي كفر الدوار.

6
 التعامل مع الأمن
يطلب ضباط أمن الدولة بيانات بعض المريدين أو يسألون عن معنى أشعار الذكر
مسئوليات خليفة الخلفاء بها مسئوليات إدارية كثيرة، كما يقول أحمد. أحد هذه المسئوليات هو "منح الإجازة"، وهي شهادة رسمية معتمدة من الطريقة تحوي تاريخ انضمام المريد إلي الطريقة وأنه قد ترقي إلي مرتبة تسمح له بإقامة حلقات الذكر.
إضافة لذلك، فإن خليفة الخلفاء هو الذي يتعامل أحيانا مع ضباط أمن الدولة المسئولين عن ملف الطرق الصوفية، في حالية غياب الشيخ.
يظهر رجال الأمن في المشهد بأكثر من طريقة.
"أحيانا يجي لنا ناس من أمن الدولة لتسجيل حلقات الذكر ومعرفة ما يدور فيها بطريقة سرية". يقول أحمد أن هؤلاء الأشخاص يتم التعرف عليهم بسهولة، فأخوة حلقات الذكر يعرفون بعضهم بالاسم، وحين ينضم لهم غريب يلاحظه الجميع بسهولة.
و"أحيانا يستدعينا ضباط أمن الدولة طلبا لبيانات بعض المريدين كأسمائهم وعناوينهم ومهنهم، أو يطلبون منا تفسير بعض ما لا يفهمونه في تسجيلات حلقات الذكر". يروي الشيخ أحمد أن عامي 2004 و2005 قد شهدا أوامر مباشرة بإلغاء حلقات الذكر أكثر من مرة، ويؤكد أنه في أكثر من مرة تأتي تعليمات من الأمن باستبعاد أفراد بأعينهم من حلقات الذكر.
"ليه؟ ما تسألش. ما حدش يعرف السبب".
غير أن أحمد لا يري غضاضة في مراقبة الأمن لحلقات ذكر الطرق الصوفية، "فربما كان في ذلك منع لدخول المخربين والإرهابيين ودعاة الرذيلة إلي هذه الطرق". بل إنه يقول أن أمن الدولة بهذه الطريقة "يحمي الطرق الصوفية من أن يحاول دخول صفوفها لص أو فاسد".
كما لا يري أي مشكلة في حصول الأمن علي بيانات المريدين، "وإحنا خايفين من إيه؟ الأمر لا يختلف عن إنك تروح تأجر غرفة في فندق، فبياخدوا منك البطاقة والبيانات".
وإعطاء بيانات المريدين للأمن إجراء روتيني لا بد أن يسبق حصول المريد علي كارنيه عضوية الطريقة الرسمي المختوم بختم المجلس الأعلي للطرق الصوفية في القاهرة.

7
 والخروج من الطريقة
الممارسات الخاطئة مثل التمسح بالأضرحة وتقديس المشايخ لدرجة التأليه

خروج الشيخ أحمد من الطريقة الرفاعية كان بسبب نصابين "رأيت فسادهم بنفسي، من مشايخ وأتباع مختلف الطرق"، ليؤكد أن الدجل والشعوذة والإيهام بالقدرة علي تسخير الجن لحل المشاكل المختلفة هي وسيلة للتكسب بين الكثير من مشايخ وأتباع كافة الطرق الصوفية، "لأن أصحاب الأهواء والجهلة كثير".
كان من المفترض أن يترقي أحمد في الطريقة ليصل إلي نائب شيخ وربما يصير نفسه شيخ طريقة ذات يوم. إلا أنه آثر الابتعاد رويدا رويدا عن الارتباط الرسمي بالطريقة الرفاعية.، بعد كل ما رآه في الطريقة، والطرق الأخرى.
أحد أتباع الطريقة كان كلما رأى رجلا عليه معالم الحزن أو الكرب في المسجد، استفسر عن أحواله ليعلم أسباب اكتئابه، "بعدها يروح يقوله إنه شاف له رؤية حلوة ويوهمه بقدرته علي مساعدته في المشكلة".
يزيد أحمد أنه يستنكف الكثير من الممارسات الشائعة بين مختلف أتباع الطرق الصوفية، مثل التمسح بالأضرحة، والتقديس المتزايد للمشايخ حتي "تصل إلي درجة التأليه" علي حد قوله.
الزائر لمسجد أبي خليل بالزقازيق قد يفاجأ بمشهد عشرات من مريدي الطريقة الخليلة يصلون في اتجاه ضريح شيخهم الراحل، المعاكس لاتجاه القبلة. أما مساجد السيدة نفسية، والحسين، والسيدة عائشة، وغيرها فتمتلأ بالمئات من الزائرين طلبا للمساعدة من الراقدين في الأضرحة.
يرفض الشيخ أحمد أن يعلق علي طريقة بعينها، وإن كان يقول أن طلب المدد من الموتي يعد "نوعا من الكفر، فالمدد هو طلب العون لقضاء الحوائج، وهو لا يأتي إلا من الله ونبيه محمد فقط". ولا يؤمن الشيخ أحمد بأن القطب الرفاعي ولا غيره يستطيعون إعطاء المدد لأحد، "فمتي توفي الشيخ لا لنفسه ولا للآخرين شيئا".
يخرج الشيخ أحمد من جيبه بطاقات عضوية اثنين من أتباعه في الطريقة، قائلا "دول اتنين من مئات الناس اللي خدت العهد علي إيدي". يستعد الشيخ أحمد للرحيل، وهو يقول "دلوقتي بنعمل حلقات الذكر في بيوتنا بعيدا عن المساجد وعن باقي أتباع الطريقة".

إضافات

1
الحضرة الزكية
يعرف الصوفية الحضرة بأنها "حضور الله في القلب"، من خلال الاجتماع تحت قيادة شيخ أو وكيل من الطريقة.
لكل طريقة أسلوب مميز بالحضرة، فالرفاعية والنقشبندية تركز علي الإنشاد الذي قد يصاحبه تمايل مع النغمات أو لا يصاحبه.
في حين أن الطريقة المولوية في تركيا شهيرة بالدراويش ذوي الأزياء البيضاء والطرابيش، الذين يدورون حول أنفسهم بأسلوب يحتاج سنوات من التدريب.
أما الطريقة البرهانية الدسوقية، والتي يقول الشيخ أحمد أنه يحب من الحين والآخر مشاركتهم في حلقات الذكر، فتتميز باصطفاف الذاكرين في صفين متوازيين يهزون أجسادهم ورؤوسهم 180 درجة إلي اليمين واليسار، أو الوقوف في المكان مع القفز الخفيف صعودا وهبوطا بتحريك الركبة والوقوف علي مشط القدم.
يتولي المنشد تطريب الأوراد، في حين يتولي الرديدة تكرار "كوبليه" أو لازمة تفصل كل طابق عن الآخر. ويعاونهم علي حفظ الإيقاع "المستفتحين" الذين يستخدمون أصوات حلقية مثل "اه اه" و تصفيقا خفيفا للحفاظ علي الإيقاع الذي ينتقل بسلاسة بين الزار والسماعي الخفيف.
هذه العملية قد تبدو بسيطة في الظاهر، إلا أنها تحتاج إلي سنوات من الخبرة والتدريب، فأتباع الطريقة يتحركون بشكل متواز ومنتظم ودقيق وهم مغمضي الأعين، ويغيرون من أسلوب حركتهم في وقت واحد اعتمادا علي إشارات صوتية من المستفتح، كتغير نوع الإيقاع أو أسلوب التسقيف.
وتتميز هذه الطريقة أيضا بأن أتباعها يغلقون الأنوار ويضيئون فانوسا مكونا من مصباح عليه بيرق الطريقة ذي الألوان الثلاثة.
ويؤمن بعض أتباع الطرق أن أرواح الشيوخ والأقطاب تتلبس المريدين، ليصلوا إلي حالات من الوجد والمكاشفة.

 
2
تصاريف خاصة
بعض الطرق الصوفية تحتفظ بتصاريف خاصة لكل مناسبة.
طبقا لأحد أتباع الطريقة التيجانية مثلا، فإن تكرار اسم "لطيف" 1973 مرة يوميا لمدة أسبوع يجلب وظيفة، في حين أن تكراره 1316 مرة لمدة أسبوع يبطل الأعمال والسحر.
بعض هذه التصاريف والأوراد لا يتم تدوينه بل يتوارثه الخلفاء عن المشايخ. لكن لماذا تحتفظ الطرق بهذه الأسرار إن كان فيها خيرا للناس طبقا لإيمانهم؟.
يقول أحمد أن الله قد اختص السيد الرفاعي بكرامات خارقة، مثل الصلوات التي تسخر الأسود والثعابين، وأوراد وصلوات خاصة تجعل الإنسان قادرا علي أن يدخل في جسده أسياخا أو سيوفا دون أن ينزف، ودبابيس في جفن عينه دون إصابة. ويؤكد أنه قد جرب بعض هذه الصلوات بنفسه وأثبتت نجاحها.
"هذه الأسرار وغيرها قد تستخدمها لتعين بها ذوي الحاجة وتعلي من أمر الدين وتأخذ الثواب أو تعمل به دجالا وأفاقا"، وحرصا علي ألا تقع تلك الأسرار في أيد غير أمينة، فإن الشيوخ يختصون بها من يثقون فيهم من المقربين إليهم فقط، طبقا للشيخ أحمد.





Tuesday, August 9, 2011

الدعوة السلفية- الحلقة الرابعة: السلفية أسلوب حياة



  • في الحلقة الثالثة تكلمنا عن تعرض الدعوة السلفية لضربات أمنية عديدة ضمن سياسة قمع جميع الحركات الدينية في التسعينيات كسبيل لمواجهة هجمات الإرهاب، و
  • كان جهاز أمن الدولة يصنف التيار السلفي إلي نوعين، السلفية التنظيمية والسلفية غير التنظيمية، وكانت الدعوة السلفية بالطبع تنتمي للنوع الأول
  • قلنا أن التنظيم المحكم للدعوة السلفية أدي إلي استمرار نشاطها في الدعوة وتوزيع الزكاة رغم التضييق الأمني الشديد، لكن أواخر التسعينيات والعقد الأول من الألفينات شهد 3 ظواهر هامة ساهمت في بقاء واستمرار الحركة
ظهور وانتشار الانترنت:
  • أواخر التسعينات ظهر موقع "طريق الإسلام" السعودي وكان وقتها أكبر موقع سلفي علي الإطلاق. استكتب الموقع شيوخ الدعوة السلفية ونشر مقالاتهم، فكان لفترة المنفذ الوحيد لهؤلاء المشايخ للكتابة والنشر. انتشرت بعدها المنتديات والمواقع التي أتاحت للمشايخ الحديث المباشر ورد الفتاوي لأعضاء الدعوة حول مصر كلها دون حاجز.
  • إلا أن أولي المواقع الرسمية للدعوة السلفية لم تظهر إلا عام 2006، ففي هذا العام نشأ موقع "صوت السلف". تم إنشاء الموقع بالجهود الذاتية علي يد 7 متطوعين فقط من أعضاء الدعوة بالأسكندرية مستخدمين جهازين كمبيوتر فقط. اعتمد الموقع علي نشر مقالات 25 كاتبا من مشايخ الدعوة السلفية، أهمهم الشيخين ياسر برهامي وعبد المنعم شحات. تطور الموقع ليتضمن بابا كاملا للرد علي الفتاوي في كل شيئ وعن أي شيئ، بداية من حكم ارتداء دبلة الخطوبة أو التي شيرت الذي يحمل أسماء "الكفرة" من لاعبي كرة القدم، إلي رأي مشايخ الدعوة في بن لادن والإخوان المسلمين والانتخابات وغيرها.
  • تعرض القائمون علي الموقع لضربات أمنية واعتقالات وتهديدات متفاوتة في موجات من الشد والجذب التي تعرض لها جميع الناشطين من كافة الحركات السياسية، مثل كفاية، في ذلك الوقت. ورغم المصاعب الأمنية فإن نجاح الموقع والإقبال المذهل عليه شجع الدعوة علي إنشاء موقع "أنا السلفي" عام 2007 المخصص للمقاطع الصوتية والمرئية. كل مسجد يحاول رواده جمع تبرعات كافية لشراء كاميرا والتطوع لمتابعة شيوخ المسجد وتوثيق خطبهم. تقول الدعوة أن جميع المقالات تعبر عن رأي الدعوة رسميا، أما مقاطع الفيديو فلا تعبر إلا عن رأي صاحبها لكثرتها وصعوبة حصرها ومراجعتها.
ظهور القنوات التليفزيونية السلفية
  •  في الخمس سنوات الأخيرة، والتي لم تكن تدعوة لمنهج "الدعوة السلفية" تحديدا بل إلي التيار السلفي بشكل عام. وظهرت أغلب هذه القنوات برؤوس أموال خليجية سعودية، منها مثلا شركة البراهين التي كانت تمتلك قنوات الناس والحافظ والخليجية والصبا والجمال، وكلها اعتمدت علي مشايخ مصريين منهم مشايخ من الدعوة السلفية
تعليم الأطفال وبناء مجتمع


  • أهم ما كفل للدعوة السلفية الاستمرار كان اهتمامها الشديد بالتعليم والتربية للأجيال الجديدة. تحفيظ القرآن للأطفال مجانا أو برسوم قليلة وتعليمهم أصول الدين كان من أهم أنشطة المساجد السلفية.
  • أوائل الألفينات قام الشيخ مصطفي دياب، أحد كبار مشايخ الصف الثاني للدعوة، بإعداد منهج ديني للأطفال ونشره في كتاب "سبيل الهدي". الكتاب ينقسم إلي فصول "التوحيد، الفقه، الحديث، السنة.." بأساليب مبسطة تصلح للأطفال في سن العاشرة فما فوق.
  • الكتاب كان يحوي تأصيل لمنهج السلف في الطفل، فداخله جرعة مكثفة للمصطلحات المؤسسة لمنهج أهل السنة "الفارق بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، الفارق بين المسلم والكافر والنصراني، الحديث الصحيح.."، وجرعة مكثفة أيضا لتعميق أهمية أعلام التيار السلفي الوهابي السعودي، فالكتاب به مئات الاستشهادات للشيخين بن العثيمين وبن باز والتأكيد المتكرر علي المكانة المميزة لابن تيمية "شيخ الإسلام".
  •  في ذات الوقت، يتعلم الطفل أن الغناء والموسيقي حرام، وأن مشاهدة المسلسلات طريق مضمون إلي جهنم، وأن كل أفعالهم عليها أن تدور حول طاعة الله. اللهو ولعب الكرة،علي سبيل المثال، ليست مجرد لعبة هدفها التسلية واللهو، بل هي وسيله هدفها الترويح عن النفس للاستعانة علي مشاق الحياة والعبادة، وطريقة لتقوية الجسد لأن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف. يتدرج الطفل من كتاب "سبيل الهدي" إلي دروس النحو واللغة التي تؤهله بعدها لدروس التجويد وحفظ القرآن والتنافس مع أقرانه علي سرعة الحفظ وجودة الأداء.
  • المسجد السلفية الصغيرة في الأحياء الفقيرة والشعبية لم تكن مجرد مكان للصلاة أو الدروس الدينية، بل وفرت الاحتياجات الاجتماعية الكاملة لزائريها. المسجد مفتوح طوال النهار، يلقاك داخله رجال مبتسمين ينادونك "أخ فلان" فور معرفتهم باسمك. يسمح داخل المسجد بالحديث والسمر والمزاح الخافت المناسب للمكان بعكس المساجد الأخري التي تشدد علي أهمية السكون التام وتنشر جوا مضادا للتواصل بشكل عام. المسجد مكان لتنظيم دورات كرة القدم لشباب وأطفال الحي، ومكان مفتوح للمذاكرة الجماعية في جو هادئ للأطفال أيام الامتحانات، وربما لعب الاستغماية واللهو حين يكون المسجد خاليا. لا يمر أسبوع دون عقيقة لحم دسمة احتفالا بزواج أحد الأخوة. ولأن الأخوة ملتزمين لا يختلطون بالنساء، فكان المسجد مكانا مثاليا للتعرف علي شباب المنطقة وطلب النسب بنساء عائلاتهم المنتقبات الملتزمات من أعضاء الدعوة أو بنات التيار بشكل عام.
  • باختصار صار المسجد هو محور حياة عائلة أفراد الدعوة وهو ما كفل للدعوة الاستمرار، فهي ليست مجرد حركة سياسية من الممكن أن تنفرط، بل أسلوب حياة مدعوم بالإيمان القوي والروابط الأسرية. هذه الروابط كان لها دور شديد الأهمية في الحفاظ علي كيان الدعوة وتماسكه ثم ظهورة في الشكل المنظم الذي ظهرت به منذ اندلاع الثورة. موقف الدعوة من 25 يناير ودورها أثناءها وبعدها نبدأ الحديث عنه الحلقة القادمة بإذن الله














Thursday, August 4, 2011

الدعوة السلفية- الحلقة الثالثة- العمل تحت رقابة أمن الدولة

  • توقفنا في الحلقة الثانية عند ازدهار الحركة السلفية في أواخر الثمانينات وتأسيسها لمجلات ومراكز علمية واجتذاب عدد ضخم من المريدين
  • في التسعينيات تعرضت الدعوة السلفية مثل غيرها من الحركات الإسلامية للإقصاء الكامل والتعامل الأمني الصارم بعد تعرض مصر لعدة هجمات إرهابية
  • لم تكن الدعوة السلفية ضالعة في أي عملية إرهابية ولم يثبت علي أي من أعضائها التورط في أعمال عنف، لكن ذلك لا يمنع أن كافة مشايخها قد تعرضوا للاعتقال والتعذيب، ومنهم "قيم" الدعوة نفسه الشيخ أبو إدريس
  • تم إغلاق معهد الفرقان، المعهد المعتمد لتدريس الفكر السلفي كما تم إغلاق مجلتي السبيل وصوت الدعوة ولم يسمح للدعوة بالظهور الإعلامي علي الإطلاق. وكان أئمة الدعوة في الأسكندرية ممنوعون من السفر بحرية بين المحافظات، ناهيك عن السفر إلي خارج مصر
  • مع اعتقال وتعذيب العديد من أعضاء الدعوة من قبل أجهزة الأمن، صار لأمن الدولة جواسيس وأعين داخل الدعوة السلفية، ومعرفة تامة بأدق شؤون الدعوة. أحد قادة الدعوة قال لي ذات مرة أن معلومات أمن الدولة عن الدعوة كانت دقيقة بدرجة 90% علي الأقل
  • رغم ذلك فإن التنظيم الشديد للدعوة سمح لها بالاستمرار رغم كل الضغوط الأمنية. اختفت الألقاب والمناصب والهياكل الإدارية ولم يعد لها وجود معلن، لكن أنشطة الدعوة استمرت. توزيع الزكاة استمر وإن بدرجة أقل  
  • استولت وزارة الأوقاف علي العديد من المساجد السلفية واستبدلت المئات منهم بأئمة الأوقاف المعتمدين، لكن نقص عدد الأئمة الرسميين سمح للدعاة السلفيين بالاستمرار في السيطرة علي العديد من المساجد خاصة التي تبعد عن قلب الأسكندرية، مثل منطقة العامرية ووادي القمروبركة السبع وغيرها
  • لم يعد هناك معاهد تمنح "الإجازة" لكن الدروس الدينية غير المنتظمة بعد صلاة العصر والعشاء كان لها دور هائل في جذب المزيد والمزيد من طلاب العلم الشرعي للدعوة
  • رغم كل التضييقات الأمنية أصبح للدعوة السلفية فروع في المحافظات، من القاهرة لأسوان. التيار السلفي بشكل عام كان موجود في كل أنحاء مصر، لكننا هنا نتحدث عن جماعة منظمة بعينها، هي "الدعوة السلفية"، التي صارت الأسكندرية عاصمتها وأئمة الدعوة فيها هم فقهائها الذين يتبعهم أعضاء ومنسقين في كل أنحاء مصر
  • شهدت فترة التسعينات ظاهرتين شديدي الأهمية
  • مع انحسار المطبوعات السلفية الدورية وحرمانهم من إصدار الصحف والمجلات، ازدهرت دور النشر الصغيرة التي تتولي طبع كتب التراث وكتب مشايخ الدعوة في طبعات شعبية.لم يهتم شيوخ الدعوة بالتصاريح والإجراءات القانونية وسمحوا للجميع بنقل وطبع كتبهم دون قيود. كل من حضر معرض القاهرة الدولي للكتاب في العقد الماضي يذكر الحضور السلفي المكثف لهذه الدور
  • ازدهرت في تلك الفترة الجمعيات الخيرية السعودية العالمية، وأهمها موسسة "رابطة العالمة الإسلامية" ومقرها السعودية، ومؤسسة "الحرمية الخيرية" ومقرها في باكستان لكن تمويلها سعودي. هذه المؤسسات بنت العديد من المساجد والمراكز الإسلامية في أنحاء أوروبا. وكانت هذه الجمعيات تستعين بمشايخ السلفية، وكثير منهم من أعضاء الدعوة السلفية، للخطابة والتدريس هناك لسنين عديدة وبمرتبات خيالية. وبعودة هؤلاء المشايخ لمصر أسسوا شركات استثمارية في كافة المجالات، بداية من المتاجر ومحلات الطعام، للمستشفيات وشركات تسويق الأدوية. وكان لهذه الشركات دور مهم في الحفاظ علي الدعوة وتمويلها بعد ذلك، وكثير من رجال الأعمال/المشايخ السلف هم الآن من أهمم ممولي حزب النور السلفي الذي سنتحدث عنه في حلقات لاحقة
  • انتهي دور هذه الجمعيات الخيرية الضخمة أوائل الألفينات بعد أن تم إغلاقها وتجميد أرصدتها بعد اتهامها بتمويل أنشطة إرهابية أعقاب سبتمبر 2001. لكن الدعوة السلفية والتيارات السلفية في العالم العربي أجمع كانت قد استفادت منها واستمرت في نشاطها، وبدأت الدعوة السلفية في مصر تطوير أساليبها مع مطلع القرن الحادي والعشرين مما هيئ لها أتباع وتنظيم محكم ظهر بعد الثورة، سنتحدث عنه غدا إن شاء الله.



Tuesday, August 2, 2011

الدعوة السلفية- الحلقة الثانية: مرحلة الازدهار

 
 
 
  • في الحلقة الأولي تحدثنا عن انفصال بعض أعضاء "الجماعة الإسلامية" في الأسكندرية وتكوينهم "المدرسة السلفية" التي تحولت إلي "الدعوة السلفية" عام 1984
 
  • دلالة تغير الاسم من "المدرسة" إلي "الدعوة" هو توسع نشاط المجموعة لتتخطي التدريس والوعظ إلي دور اجتماعي وتثقيفي أوسع
 
  • عدد المساجد بمصر أقل كثيرا من عدد أئمة الأوقاف. كما أن الكثير من أئمة الأوقاف ليسوا علي مستوي عال من الثقافة والتفقه. من هنا، استطاع أتباع الدعوة السلفية الانتشار في المساجد لسد هذه الفجوة ونشر فكرهم علي نطاق جغرافي أوسع
 
  • مع انتشار الفكر السلفي في أوساط واسعة وانضمام المزيد والمزيد من الأعضاء إلي الدعوة السلفية بالأسكندرية، أصبح بإمكان الدعوة التصدي لدور اجتماعي في رعاية الفقراء والأيتام من خلال إدارة الزكاة التي يجمعوها من المساجد ذات الأئمة التابعين للدعوة
 
  • الجيل المؤسس للدعوة السلفية قد تعلم فن التنظيم والإدارة من الجماعة الإسلامية. الجماعة الإسلامية كانت تقوم علي خلايا يرأسها "أمراء" للخلايا وصولا إلي أمير الأمراء في نظام هيراركي. أما الدعوة السلفية فكان عليها "قيم" بتشديد الياء وكسرها، يتولي إدارة شؤونها. وكان القيم هو الشيخ محمد عبد الفتاح، الذي لا يتمتع بكاريزما ونادرا مايظهر أو يخطب في العلن. لكن أعضاء الدعوة طالما شهدوا له بالتفوق في المهارات الإدارية.
 
  • استطاع أبو إدريس مع المجموعة المؤسسة للمدرسة السلفية، كالشيخ أحمد فريد والشيخ ياسر برهامي والشيخ سعيد عبد العظيم، والشيخ عبد المنعم الشحات وغيرهم إدارة الدعوة السلفية وتنظيمها بإحكام، فأقاموا لجان إعلامية ولجان تثقيفية ولجان للجامعات ولجان للزكاة وغيرها
 
  • في التعليم: عام 1986 أنشأت الدعوة "معهد الفرقان" بحي باكوس وأشرف عليه الشيخ أحمد حطيبة. الطالب المعهد كان يشترط أن يكون حافظا لعدة أجزاء من القرآن. ويدرس الطالب لمدة سنتين كاملتين في القرآن وتفسيره والسنة والفقه والنحو واللغة وغيرها . يمر الطالب بامتحانات عديدة إلي أن يحصل علي "الإجازة" وهي شهادة من الشيخ بأن تلميذه أصبح قادرا علي الخطابة. إنها شهادة ليست معترف بها من قبل الدولة، لكن من يحصل عليها يصبح خطيبا في مساجد الدعوة
 
  • في الإعلام: عام 1986 أنشأت الدعوة مجلة "صوت الدعوة" التي كانت تنشر آراء مشايخ الدعوة و"السبيل" التي كانت تهتم بأخبار العالم الإسلامي. هذه المجلات تثبت أن الدعوة السلفية كانت تنشر آرائها بصراحة ووضوح، ولم تكن "تختبئ" قبل الثورة كما يدعي البعض. لكن الإعلام وقتها، خاصة مع غياب الإعلام الخاص، كان يتجاهلهم تماما
 
  • في الجامعات: نظم طلاب الدعوة السلفية العديد من الفعاليات علي مدار السنين. كان من عادتهم تخصيص أسبوع بعينه لنشاط محدد. "أسبوع الحجاب" للتوعية بالزي الإسلامي مثلا، ومعارض كتب وندوات وتوزيع كتيبات وملصقات في الجامعة وغيرها
 
  • لم تعبأ الدولة بالدعوة السلفية لبعدها عن العمل السياسي. لكن مع ظهور موجة الإرهاب التي ضربت مصر في التسعينيات انتهي شهر العسل بين الدولة والدعوة السلفية فتعرضت للبطش من أجهزة أمن الدولة وتغيرت أساليبها. نتابع غدا في الحلقة الثالثة إن شاء الله
 


Monday, August 1, 2011

الدعوة السلفية: الحلقة الأولي- التاريخ والنشأة


قبل أن تقرأ:
-         الجمعة الماضية، 29 يوليو، ظهر "بن لادن" في ميدان التحرير. عشرات أو مئات الآلاف من السلفيين، تميزهم ملابسهم ولحاهم، تظاهروا في الميدان هدفهم "تطبيق الشريعة".
-         يتعامل البعض مع السلفيين كأنهم كائن خرافي ظهر فجأة بعد ثورة 25 يناير، ودون أدني معرفة بتاريخ هذا التيار الممتد من سبعينات القرن الماضي.
-         الهدف من هذه السلسلة هو التعريف بالدعوة السلفية في مصر، هذا الكيان السياسي الغامض الذي يجهل كثيرون تاريخه وأهدافه.
-         تعمدت أن تكون الحلقات مبسطة وقصيرة وسهلة الهضم، مقسمة إلي نقاط مختصرة،  تناسبا مع الحالة الذهنية للقارئ، ولي شخصيا، أثناء صيام الشهر الكريم.
-         حاولت بقدر الإمكان أن أسرد الوقائع والحقائق دون رأي أو تعليق.
-         من باب الأمانة الفكرية، فلابد أن أقول أني علماني أرفض خلط الدين بالسياسة، فلعل القارئ يعذرني إن غلبت علي أهوائي الشخصية دون قصد.

الحلقة الأولي: التاريخ والنشأة

-                   تشير كلمة "السلفية" إلي منهج فكري يدعو للتمسك بحذافير المذهب السني الإسلامي، ومصادره الرئيسية هي القرآن والحديث وحياة الخلفاء والصحابة والتابعين إلي غيرهم ممن يدعونهم "السلف الصالح".
-                   يعتمد هذا المنهج الفكري علي تغليب النقل علي الاجتهاد، ويميل أغلب أتباعه الجدد إلي اتباع المذهب الحنبلي وأئمته علي شاكلة "ابن تيمية" و"القيم بن جوزية"، وصولا إلي ورثيه في العصر الحديث، الحركة الوهابية في السعودية ومن أئمتها "ابن باز" و"ابن عثيمين".
-                   من هنا، فالسلفية تيار أو أيديولوجية واسعة، كالاشتراكية أو الليبرالية، تحوي داخلها عشرات التنظيمات السياسية التي تستخدم تكتيكات مختلفة ولها أولويات متباينة. 
-                   الغالبية العظمي من السلفيين في مصر ليسوا منتظمين في جماعة أوحزب، بل هم ملتزمون بالمنهج الفقهي وأسلوب الحياة والحرص علي ما يسمونه "الهدي الظاهر" أي اللحية والنقاب وغيرها من علامات الالتزام الديني.
-                   ما يعنينا هنا ليس فقه المذهب السلفي الذي من السهل التعرف عليه من خلال متابعة قنوات مثل "الناس" و"الحكمة وغيرها"، ولكننا سنركز علي أكبر تجمع سلفي منظم في مصر وهو ما يسمي "الدعوة السلفية"، وهو أكبر تيار سياسي سلفي نشط، خاصة بعد ثورة 25 يناير.  
-                   أوائل السبعينات نشأت جماعة إسلامية متطرفة تسمي نفسها "الجماعة الإسلامية"، تهدف إلي الانقلاب المسلح لإقامة دولة الخلافة الإسلامية. أشهر أعضائهم بالطبع هو عبود الزمر، قاتل أنور السادات.
-                   عام 1977، اعترض بعض أعضاء الجماعة الإسلامية في الإسكندرية علي أسلوب الصدام المسلح، مفضلين الأساليب السلمية في التغيير القائمة بشكل رئيسي علي التعليم والتثقيف.
-                   كان من أهم هؤلاء الأفراد المنفصلين هم الشيخ ياسر برهامي، الشيخ محمد عبد الفتاح وغيرهم، ويلاحظ أن أغلب المنفصلين كانوا طلبة في كليات علمية مثل الطب والهندسة وعلي مستوي عال من الثقافة والاجتهاد.
-                   عام 1979 قررت المجموعة المنفصلة أن تطلق علي نفسها "المدرسة السلفية" تمييزا لنفسها عن "الجماعة الإسلامية"، واقتصر النشاط الديني لأعضاء المدرسة السلفية علي نشر الفكر السلفي واجتذاب أعضاء جدد. لم تواجه الدعوة مشكلات مع الحكومة لالتزامها بالمنهج السمي ونبذ العنف.
-                   استمرت الدعوة في العمل ونشر أفكارها التي اقتصرت علي الالتزام الديني دون اصطدام بالحكومة ودون نشاط سياسي، وتوسع عدد أعضائها وأصبح لمشايخها شعبية كبيرة.
-                   عام 1984 غيرت المجموعة المؤسسة للمدرسة السلفية اسمها إلي "الدعوة السلفية"، وهو الاسم الذي تحتفظ به حتي الآن، وذلك للإشارة إلي أن نشاطها لم يعد يقتصر علي التعليم فقط، بل تعداه لأنشطة اجتماعية وثقافية مختلفة، نتعرف عليها في الحلقة المقبلة غدا إن شاء الله.